التنجيم

 

ألتنجيم من منظور العلم الحديث


تكثر في بدايات السنة الميلادية التنبؤات التنجيمية وتوقعاتها وبعضها إيجابي والآخر سلبي وغالبا ما تكون هذه التوقعات اقتصادية او سياسية او عسكرية او امنية او كوارث طبيعية او طبية او انتشار امراض واوبئة او غير ذلك، ومعظم هذه التنبؤات عامة و فضفاضة وغير محددة، وقد تحدث بعضها من قبيل الصدفة واغلبها لا تحدث.

سوف نركز في هذه العجالة على الجوانب النظرية المجردة للأطروحات التنجيمية الأولية ومعضلاتها الفلسفية والميتافيزيقية، وموقف العلم الحديث وخاصة المنهجية العلمية الصارمة ، ان التنجيم ليس علما ولا يخضع للمنهجية العلمية ويسمى في الغرب العلم الكاذب، ويقع في منطقة حدودية بين العلم والميتافيزيقا والخرافات.

إن العلم يعتمد على المنهج التجريبي وعلى نتائج الدراسات المخبرية والقياسات وقد تطور هذا المنهج من ايام جاليليو و وتوماس هوبز و فرنسيس بيكون وديكارت واسحق نيوتن وذلك ضمن خطوات علمية صارمة من حيث الملاحظة و الفرضية والتجربة والاستنتاج والتكرار حتى نستطيع طرح القرار العلمي أو الوصول الى النظريات العلمية، وقد تشدد فيلسوف العلم في القرن العشرين كارل بوبر وأضاف معيارا للحقيقة العلمية سماه "قابلية الدحض"،  والنظرية الأفضل هي التي تصمد في النقاشات أمام النظريات المنافسة وتنجح في الاختبارات القاسية والدقيقة والمتنوعة.

التنجيم هو إيجاد علاقة بين الأحداث الكونية ومواقع النجوم والمجموعات النجمية والأحداث الارضية المتزامنة مثل ميلاد شخص او سلوكه وحظه، او بناء مدينة أو نشوب حرب أو حدوث كارثة ارضية او انهيار اقتصادي او تغيير سياسي او ميلاد او موت حاكم  وغيرها من الاحداث الارضية، وهذه الاعتقاد بأن مواقع النجوم والكواكب تؤثر على الطريقة التي تحدث بها الاحداث على الارض ليس لها دليل منطقي  أو برهان علمي لانها خارج القوى التفسيرية المعتمدة لعلوم الكوزمولوجيا او الفيزياء الفلكية.

وهناك بعض الاختبارات وخاصة التي قام بها شون كارلسون وضم لجنة من العلماء ولجنة من المنجمين، وقد أدى ذلك إلى استنتاج مفاده أن التنجيم عند لحظة الولادة لم يكن أفضل من الصدفة، ادعى المنجم وعالم النفس ميشيل جوكلين وجود دعمًا إحصائيًا لـ "تأثير المريخ" في تواريخ ميلاد الرياضيين ، ولكن هذا تم نقضه بسبب انه لا يمكن تكراره في دراسات أخرى، بالإضافة الى الدعوة التي طرحها منظمو الدراسات اللاحقة أن غوكلين حاول التأثير على معايير إدراجها في الدراسة من خلال اقتراح إزالة أفراد معينين، وقد اقترح أيضًا ، من قبل جيفري دين ، أن الإبلاغ عن أوقات الميلاد من قبل الوالدين (قبل الخمسينيات) ربما تسبب في التأثير الواضح.

لم يثبت علم التنجيم فعاليته في الدراسات الخاضعة للرقابة الصارمة وليس له صلاحية علمية ، وبالتالي يعتبر علمًا زائفًا.

علم الفلك حديثا هو علم يدرس كل شيء خارج الغلاف الجوي للأرض ، مثل الكواكب والنجوم والكويكبات والمجرات وخصائص تلك الأجرام السماوية وعلاقاتها، او بشكل عام:  دراسة كل ما هو موجود في الكون باستخدام النظريات الرياضية والنماذج وكذلك المنهجيات العلمية الصارمة.

حتى نستطيع فهم التنجيم وجذوره، فقد ارتبط في التاريخ القديم الى العبادات النجمية، وهي عبارة عن عبادة النجوم والكواكب والأجرام السماوية كآلهة ، أو ارتباط الآلهة بالاجرام السماوية، في الأدبيات الأنثروبولوجية، ويمكن الإشارة إلى أنظمة الممارسة هذه باسم الطوائف النجمية، من الأمثلة الأكثر شيوعًا لهذا هي آلهة الشمس وآلهة القمر في جميع أنحاء العالم القديم، ومن الجدير بالملاحظة أيضًا ارتباط الكواكب بالآلهة في الديانة السومرية، وبالتالي في الديانة البابلية واليونانية الرومانية، مثل عطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل، كان صابئة حران، وهم ديانة وثنية غير مفهومة جيدًا وكانت موجودة في حران خلال الفترة الإسلامية المبكرة (القرن السابع إلى العاشر)، معروفين بعلمهم الفلكي ("العبادة النجمية"). وكذلك عبادة النجم القطبي في الثقافة اليابانية وحظرت من خلال مرسوم إمبراطوري في فترة هيان، وكذلك عبادة الشمس وتقديسها حاليا في اليابان، ونستطيع ان نقول ان التنجيم هو "تطور من عبادة الكواكب والنجوم الى ربط الاحداث بها" بشكل عام من طقوس وتقاويم، ونسوق العديد من الامثلة في حياتنا: حركة الأرض والقمر والشمس وهو حدث فلكي حيث أنه مرتبط بحساب الزمن والتقاويم  والذي هو حدث ارضي، وهذا يعني ان التقويم الذي بين أيدينا و نخطط لحياتنا ومستقبلنا مرتبط بالأحداث الفلكية، كل رقم في التقويم الذي على مكتبك مرتبط بشكل او باخر بالتنجيم والمواقع الفلكيه للأجرام السماوية!

طلوع ومواقع النجوم (أحداث فلكية) مرتبطة بالتقويم النجمي وخاصة الفصول والأنواء (حدث ارضي)، قديما موعد الكريسماس في التقويم الغربي (حدث ارضي) هو احتفالات أوروبا الوثنية بالانقلاب الشتوي (حدث فلكي)، اول يوم أحد بعد اول قمر بدر بعد الاعتدال الربيعي (حدث فلكي) يحدد عيد الفصح عند المسيحيين (حدث ارضي،  ولادة القمر (حدث فلكي): بداية الشهر القمري، مثلا في الإسلام بداية الشهر (صيام، عيد،...الخ)، وكذلك الأمر عند الديانات الاخرى، الاقتران المركزي وغروب الهلال بعد غروب الشمس (حدث فلكي): بداية التقويم الهجري في الإسلام (حدث ارضي) ، البدر (حدث فلكي) : طقوس اكتمال القمر عبر التاريخ  من احتفلات البابليين والصينيين، الهندوس، الحضارة الاننجلوسكسوسية واحتفالاتها (حدث ارضي)، البدر العملاق (حدث فلكي) : الاحتفالات المختلفة عند الحضارة الانجلوسكوسينة (حدث ارضي)،

البدر (حدث فلكي) : قمر الحصاد والفراوله....الخ (حدث ارضي)،  الانقلاب الصيفي والشتوي والاعتدال الربيعي والخريفي، بعض المعتقدات بظهور نجم سهيل وانحسار الصيف، وظهور "نجم دابح" وموسم سعد الذابح، مواعيد الحج عند العرب في الجاهلية (حدث ارضي) مرتبط بموعد الانقلاب الشمسي (حدث فلكي)، والمنجم المحترف له نموذحه الخاصة به والمبني على خبرات تراكمية كبيرة ويربط تكرار الاحدث ما يساعده على التنبؤ، بالاضافة الى الذكاء الشديد والثقافة الواسعة وكم المعلومات بين يديه. وبعض من يدعي المعرفة بالتنجيم ترسل له رسائل يقوم بتسريبها على انها تنبؤات تنجيمية وهي ليست كذلك.

اعتقد البابليون—وشعوب أخرى من بعدهم—بأن مواقع هذه ”الكواكب الآلهة“ في السماء يؤثر على البشر ، وأهمها الشمس ، نشأة التنجيم: أسطوري ميثولوجي !!

تاريخيا أعمال الفلكي والمنجم كانت تتشابه، فالفلكي في القدم كان يقوم بعملية رصد الأجرام السماوية  ومحاولة حساب مواقعها (علم فلك) بهدف معرفة تأثيرها على البشر والأحداث الأرضية (تنجيم) ، بهذا المعنى، لم يكن هناك في القدم أي فرق بين علم الفلك والتنجيم!

في العصور الوسيطة الإسلامية، ورث العرب بعد الإسلام التقليد الأرسطي-البطلمي في الكون وقد ميزوا في مرحلة لاحقة بين علم الفلك (علم الهيئة) والتنجيم (علم أحكام النجوم او علم الأحكام)، اعتبر البعض أن التنجيم (علم الأحكام) هو علم صحيح .، ورفضه آخرون على أساس ديني وعلمي.

أما بالنسبة للمنجيمين المحترفين فهم يستخدمون أيضا "التنجيم الاختياري" او "تنجيم الاحداث" وهذا يعني حساب القرار المناسب لحدث ما بناء على المعطيات الفلكية في ذلك الوقت، حيث يسعى المنجمون إلى العثور على فترة زمنية تؤدي إلى النتيجة الأكثر تفضيلاً لحدث يتم التخطيط له، تاريخيًا: تم استخدام هذا النوع من التنجيم في المقام الأول لجدولة المعارك، وقد استخدمه أنصاره للتخطيط لعدد من الأحداث، بما في ذلك حفلات الزفاف والرحلات، ويستخدم هذا النوع من التنجيم الأحداث الفلكية لاختيار أفضل وقت "للولادة" (سواء كان ذلك لطفل أو عمل أو زواج)، أو شراء أو بيع منزل أو سيارة، وما إلى ذلك، ويشمل كذلك التوقيت الفلكي للتخصيب خارج الرحم وإجراءات أخرى للمساعدة في الحمل، باختصار الميلاد لا يعني ميلاد الاشخاص وانما البداية: بداية بناء مدينة، مشروع، حرب...الخ وبعضهم يستخدم هذا النوع لاختيار قراراته ومنهم من يستخدمه في وقت ونوع العاب القمار واختيار أوقات الحظ والربح، وما زال المنجمين يستخدمون الرسومات و المخططات الدائرية والاقترانات والتقابلات والمربعات والاسداس واثلاث الدوائر وغيرها من المعايير التنجيمية للتنبؤ بالأحداث السياسية والعسكرية والامنية والاقتصادية والحروب والكوارث وغيرها، لكن الأساس النظري للتنجيم ما زال غير مقبول منطقيا وعلميا.

وكما هو معروف ان الخليفة العباسي ابو جعفر المنصور كلف المنجم "نوبخت" و "ماشاء الله" ابن اثري لتحديد تنجيميا الوقت المناسب لإنشاء بغداد بالاضافة الى الاستعانة ببعض المنجمين في القصر، وقد تم تحليل النجوم والتواريخ وافضل وقت ميمون لتأسيس العاصمة الجديدة، المدينة المستديرة، مدينة السلام، وقد كان الوقت والمكان حسب التفسيرات الحديثة: الساعة 2:40 pm محليا وبتاريخ 31-7-762 م  والموقع 33N14, 44E22 . والمخطط التنجيمي فيها تفصيلات فنية كثيرة.

ما زال بعض المنجمين يعتمدون بشكل خاطئ على التقسيم البابلي القديم للابراج السماوية من حيث التقسيم المتساوي لكل منهما (30 درجة لكل برج)، وعددها 12 برج وضمن أيام محددة في السنة، بينما علم الفلك الحديث ومن خلال الاتحاد الفلكي الدولي يحدد ان عدد البروج 13 برج بعد اضافة برج الحواء أو الحاوي وان مواعيد هذه البروج متغيرة بتغير الزمان والمكان حيث تعتمد على دخول الشمس لهذه البروج، ومعظم الناس لا تعرف ابراجها بشكل دقيق وصحيح، مثلا:

دخلت الشمس في كوكبة (برج) العذراء صباح يوم الأحد الساعة 10:50 الموافق 17 أيلول/سبتمبر 2023 وذلك بالاعتماد على الحسابات الفلكية لمدينة عمان وضواحيها، وخرجت منها مساء يوم الثلاثاء الساعة 11:12 الموافق 31 تشرين أول/ اكتوبر، حيث مكثت فيها اربع واربعين يوم ونصف  حسب الحدود التي أرساها الاتحاد الفلكي الدولي.

لا يوجد دليل معتمد بين يوم ميلادك ودخول الشمس في برجك وسلوكك وحظك والأحداث الشخصية وغير الشخصية.

في الاونة الاخيرة برزت علوم البيانات وتعلم الآلة والذكاء الصناعي، وحيث ان هذه العلوم تعتمد على توليد الكودات والبرمجيات الذاتية والخوارزميات المتولدة وصناديق الكودات السوداء المتولدة ذاتيا ولا نعلم إلى أي مستوى وصلت ، واختيار البارامترات بدون سبب لهذه العلاقات، ومجاميع احصائية ودوال الاحتمالات، كل هذا ادى الى اشكاليات فلسفية منها "قوانين السببية"، لذا فقد وصفها بعض الفلاسفة ومنظري الفكر العلمي "مجازا" على أنها "نظم تنجيمية جديدة" حيث انها تتشابه مع النظم التنجيمية التقليدية المعتمدة على مواقع النجوم في مشكلة السببية والبراهين المنطقية والمنهجيات العلمية وقد تكسر التكرار أحيانا على مستوى البيانات الكبيرة.

يطرح بعض المنجمين الحديثيين موضوع التشابك الكمومي او "التأثير الشبحي عن بعد"  وهو أحد نتائج الميكانيكا الكمومية في الفيزياء وهو مثبت نظريا وتجريبيا في الفيزياء، ويستخدم المنجمين الادعاء التالي: " حسب مبادئ التشابك الكمومي، إذا افترضنا أن الإنسان متشابك مع جسم كوكبي، فليس من المستبعد أن يكون لحالة الكوكب تأثير على حالة الإنسان"، لكن الاشكالية في ذلك ان مدى ونطاق تطبيق الميكانيكا الكمومية هو العالم المجري وليس العالم الجاهري وهذا التعميم يحتاج الى ادلة وبراهين ليست موجودة الان في العلوم.

بدأ التنجيم وعلم الفلك منذ الاف السنين بدايات متوازية وكانا تقريبا علما واحدا، ويعتبر اسحق نيوتن اول العلماء الحديثين واخر السحرة والمنجمين، واستمر هذه التباين حتى القرن السابع عشر حيث قل عدد المؤيدين للتنجيم من قبل علماء الفلك وعلماء الطبيعة بشكل عام، ومع نهاية القرن الثامن عشر انفصل علم الفلك تماماً عن التنجيم، فأصبح علم الفلك أحد العلوم الطبيعية (كالفيزياء والكيمياء  والبيولوجيا والطب والهندسة...)وبقي التنجيم على قيد الحياة — بالرغم من ذلك، وابتعد كثيرا عن المنهجيات العلمية وما زال مرتكزا على اصول لا تخضع للمنطق العلمي والمنهجيات العلمية التجربية بل تفشل وتسقط امامها، وما زال يرسم مبادئه من الميتافيزيقا او فرضيات ما وراء الطبيعة.

وفي الخلاصة نستطيع ان نقول ان التنجيم ليس علما ولا يخضع للمنهجيات العلمية والاساس النظري للتنجيم غير مثبت من النواحي المنطقية والعقلية، ولا توجد تجارب تؤكد الاساس النظري حسب الاصول، وكل ما يطرح هنا وهناك هي عبارة عن احكام عامة فضفاضة وليست دقيقة نستطيع ان نبني علها قرارات عقلانية.  

 

 

Comments

Popular posts from this blog

كيف نرى نجم سهيل؟

الاستطالة الزاوية السطحية بين كوكب الزهرة ومذنب تسوتشينشان-أطلس