LunisticeDec2025
القمر
العملاق فوق السيق امام الخزنة،
"الصورة التي لا تُصوَّر"، امام عجز
الكاميرات
عمار السكجي، فلكي وفيزيائي نظري
الفلك ليس علمًا فحسب، بل نافذة واسعة
تطلّ على فهم الكون وقوانينه، فهو في جوهره فيزياء دقيقة تُفسِّر حركة الأجرام،
وتكشف بنية الزمكان، وتمنح الإنسان أدواتٍ لفهم أعمق لوجوده، وفي الوقت نفسه يحمل الفلك بعدًا
ثقافيًا وحضاريًا عريقًا -علم الفلك الثقافي- حيث نسج البشر عبر التاريخ تقاويمهم
ومواسمهم وأساطيرهم اعتمادًا على الشمس والقمر والنجوم، وربطوا السماء بحياتهم اليومية،
فصار الفلك جزءًا أصيلًا من الذاكرة الثقافية لكل أمة.
كما يرتبط الفلك بالتاريخ والآثار-علم
الفلك الآثاري- فمنه نقرأ أسرار المعابد القديمة والمحاريب والتجاويف الصخرية التي
بُنيت وصقلت بدقّة مدهشة لتتوافق مع شروق نجم أو غروب قمر أو لحظة انقلاب شمسي،
تلك الشواهد تكشف عمق العلاقة بين الإنسان والسماء عبر آلاف السنين.
وللفلك حضور في الدين والمناسبات
والشعائر؛ إذ تُبنى عليه مواقيت العبادات ورؤية الأهلة والحج والأعياد، فيجمع بين
المعرفة العلمية والاحتياج الروحي والاجتماعي للإنسان.
ولا يقف دوره عند العلم والتاريخ، بل
يمتد إلى الفن والموسيقى والغناء والرقص؛ فالسماء ألهمت الرسّامين والموسيقيين
والشعراء، وكانت خلفية لقصائد الحب والحكمة، ولسيمفونياتٍ تتناغم مع “رقصة الكواكب”.
والفلك أيضًا مغامرة ورياضة وسياحة
وجغرافيا، فمن يخرج إلى الصحراء أو الجبال
لالتقاط حدث سماوي يخوض تجربة تجمع بين المشي الليلي، وتسلق المرتفعات، واستكشاف
الطبيعة، وقد أصبحت سماء الليل عنصر جذب سياحي عالمي " السياحة الفلكية"؛
فهناك من يسافر ليرى الشفق القطبي، أو كسوفًا شمسيًا، أو هلالًا رقيقًا فوق أفق
أسطوري، ومعرفة السماء تعلّم الإنسان جغرافيا وتضاريس الأرض؛ فحركة النجوم كانت
أول بوصلة للرحالة والبحارة، وما تزال تمنح المستكشفين إحساسًا فريدًا بالاتجاه
والمكان والهوية، أما عندنا، فالرحلات والمخيمات والخيم والمشاوي
وقلايات البندورة حول الرصد الفلكي تُضيف بُعدًا دافئًا لهذه التجربة، والسهرات في
الجبال مع اختلاف الطقس تجعل الإنسان أقرب إلى الطبيعة وأمّنا الأولى.
الفلك متعة وتسلية لكل من يرفع رأسه نحو السماء، يجد البعض فيه لذّة الاكتشاف، ويجد آخرون صفاء الروح، بينما يبحث غيرهم عن صورة جميلة أو لحظة سكون مع ضوء نجم بعيد، مثل سهيل (مرثيات مالك بن الريب) والعيوق (وهو النجم المفضل لصديقي "ابو عبد الله" فهد اخوارشيدة) والشعرة اليمانية وعنقود الثريا واشعارها في الادب العربي، والجبار ....والقائمة تطول، وكلٌّ ينهل من هذا الكون ما يشاء، وفق شغفه ورغبته ودهشته.
ما هي
الحكاية؟
تبدأ الحكاية قبل سنوات، حين وضعتُ
أمامي ظاهرة فلكية يعرفها العلماء جيدًا: "الثبات القمري الكبير"، تلك
الدورة التي تتكرر كل 18.6 سنة، حين يصل البدر إلى أقصى انحراف له شمالًا وجنوبًا
عن خط الاستواء السماوي، وازدات جمالا وروعة
بتزامنها مع البدر العملاق، وكنت على تواصل مع خبير البترا مامون النوافلة بشكل
متواصل منذ سنوات، حيث قمنا بزيارات كثيرة للبترا للوقف على اسرار الفلك في هذه
الحضارة العظيمية، وكان النوافلة رائعا "نعم المعزب".
ظاهرة راسخة في علم الفلك، لكنها في الوقت ذاته حجر أساس في علم الفلك الآثاري والثقافي، إذ تفتح بابًا لفهم كيف كان الإنسان القديم يقرأ السماء ويبني تقويمه ومعابده وأساطيره.
كنا ننتظر هذا اليوم تحديدًا… سنوات
وأنا أراقب جداول السماء، وأعيد الحسابات، واستشير اهل العلم، وأجمع المعطيات صفحة
بعد صفحة، حتى تجاوزت المحاكاة ثلاثين صفحة من الباراميترات الدقيقة، دمجتُ فيها
البيانات الفلكية مع جيومكانيات البترا؛ ذلك الوادي السحري والصرح الوردي الذي لا
يشبه مكانًا آخر على الأرض.
وكان
سؤال واحد يرافقني باستمرار: لماذا البترا؟
لأن الحسابات كانت تهمس بشيء استثنائي: في ذروة الثبات القمري، ومع وجود قمر عملاق
بدرٍ كامل، سيظهر القمر فوق السيق وكأنه يصعد سلّمًا سماويًا من القاع إلى القمة،
ليطلّ على الخزنة في لحظة لا تتكرر إلا كل عقود طويلة، إنه مشهد أسطوري، والكاميرات، مهما بلغت دقتها،
تعجز عن تصويره كما تلتقطه العين والقلب.
قبل شهر بدأت أتحدث عن هذه اللحظة في
مقالات عدة عبر الإعلام ووسائل التواصل، وحين تواصلتُ مع ابن البترا وخبيرها مأمون
نوافلة، أدركنا أننا أمام فرصة نادرة تستحق فعالية خاصة، بدأنا الاعداد لهذه الظاهرة بطريقة جدية.
لكن… دخول البترا ليلًا ليس أمرًا سهلا،
.تواصلنا مع معالي رئيس السلطة، فوافق مشكورًا،
وقدم كل التسهيلات الممكنة، وكانت الأمور تتجه نحو ليلة استثنائية، غير أنّ تقرير الأحوال الجوية قلب كل
شيء: أمطار محتملة، غيوم، وسيول خطرة في الوديان، ولذلك، اتُخذنا القرار
الحكيم بإلغاء الفعالية العامة، والاكتفاء بمشاهدة الحدث بشكل محدود وخاضع للسلامة.
أبلغتُ الفلكيين والمهتمين، وتركنا
خيار المشاركة لمن يمتلك الشغف والقدرة وروح المغامرة.
وفي نهاية الأمر… ذهبنا: مأمون نوافلة خبير البترا، وعدلي الحلبي الفلكي المغامر، وسميح صوفان الرياضياتي المتواضع، ورفيقة دربي ام ليث، وقلة تجمع بين الفلك والشغف وروح الاستكشاف والمغامرة.
وهناك، في
السكون الليلي للسيق… حدثت المفاجأة التي حسبناها بدقة، المشهد كان خرافيًا، تعجز
الكاميرات عن تصويره:
القمر العملاق ارتفع من أسفل السيق، ثم
أخذ يصعد بين الجدران الوردية رويدًا رويدًا، حتى بلغ أعلاها، كأنه يعرف هذا
الطريق منذ آلاف السنين، يضيء الخزنة بوهجٍ ناصع تعجز العدسات عن التقاطه كما هو، وقمنا بتوثيق ذلك ، رغم الغيوم الكثيفة التي تغطي البدر، الا ان
اصرار البدر بأن يرسل رسالته كان اقوى.
كانت لحظةً يمتزج فيها العلم بالعاطفة،
والرياضيات بالدهشة، والتاريخ بضوء لا يزال وفيًا للأنباط، لقد استلمنا رسائل
القدماء، وكانت الجلسة التي لا توثق بالكاميرات والتكنولوجيا، انعكاس البدر من
اسفل السيق على صفحة الخزنة، وكانه مصباح سحري يرسل ضوئه ورسائله من بين الظلام.
لكن هناك ما هو
أعظم… كنا نطمح لتوثيقه ولم نستطع بلوغه بسبب الطقس والامطاروالسيول والظلام:
مجموعة محاريب منحوتة في الصخر، في
أحدها نقش لهلال، وقد حسبتُ بدقة "أنّه عند لحظة أقصى
انحراف للميل الاستوائي—الساعة 12:51 بعد منتصف ليلة الجمعة/السبت 5–6 ديسمبر
2025—سيعكس القمر ضوءه داخل ذلك المحراب تمامًا، فيضيء نقش الهلال نفسه"!
مشهد فلكي–هندسي–حضاري لا يتكرر إلا كل 18.6 سنة، وربما شاهده الأنباط قبلنا ونحتوا الهلال كرسالةً للزمن، لكن الوصول إلى ذلك الموقع يتطلّب تسلق جبال وعبور وديان خطرة في ليلة ملبّدة، فكان لا بد من تأجيله حفاظًا على الأرواح، وخاصة اننا في اثناء خروجنا من السيق بدأت السيول تتدفق، كرسائل انذار، واستعجلنا الخروج، ولكن ما زال الحدث الثاني يهمس في اذني كرسالة للاجيال القادمة، ربما في 2042 ، تستطيع الاجيال توثيق اضاءة محراب الهلال ، ورغم كل ذلك… كانت الليلة تستحق كل خطوة.
في النهاية اتقدم بالشكر للصديقين هشام القرعان وانطونيو بيلمونتي على ملاحظتهم القيمة وتشجيعهم.
فالبترا، كما
أكرر دائمًا، كنز معرفي، أرض تجمع العلم والفلك بالأسطورة، والهندسة بالسماء.
وكل ظاهرة فلكية
تمرّ فوقها تكشف سرًّا جديدًا، وتدعونا إلى مزيد من الجهد العلمي والآثاري لفهمها
كما يجب.
Comments
Post a Comment