نجم بيت لحم

 

 

 دراسة في "التأريخ الفلكي" تفك لغز نجم بيت لحم؟

عمار السكجي، فيزيائي نظري

في دراسة علمية محكّمة نُشرت هذا الشهر في مجلة الجمعية الفلكية البريطانية، يعود لغز او معضلة نجم بيت لحم او نجم الميلاد إلى واجهة النقاش العلمي، فبعد قرون من الجدل حول طبيعة هذا الجرم الذي ورد ذكره في إنجيل متّى كعلامة قادت المجوس إلى مكان ولادة السيد المسيح، تقترح الدراسة الجديدة التي أعدّها مارك ماتني، عالم الكواكب في وكالة ناسا ، أن نجم الميلاد قد يكون في الحقيقة "مذنّبًا" شوهد في سماء الشرق قبل أكثر من ألفي عام، وقد أُنجز هذا البحث بصورة مستقلّة، مستندًا إلى تحليل معمّق للسجلات الصينية القديمة التي وثّقت ظاهرة سماوية لافتة عام 5 قبل الميلاد،  قد استخدمت في هذه المحاكاة الفلكية طرائق "مونت كارلو العددية", بالاعتماد على عناصر كبلر المدارية.

وعلى مدى قرون، ظلّ نجم الميلاد نقطة التقاء بين العلوم واللاهوت والتاريخ، وتعدّدت التفسيرات بين اقترانات فلكية نادرة، أو انفجارات نجمية هائلة، أو إشارات رمزية تتجاوز المعنى الفلكي، غير أنّ السجلات الصينية التي دوّنت بدقة في عهد أسرة هان ظلّت مرجعًا مهمًا للمهتمين بهذا اللغز، وتشير هذه الوثائق إلى ظهور جرم سماوي وُصف بأنه نجم ذو ذيل أو "نجم مكنسي" في ربيع عام 5 قبل الميلاد، وهي تسمية ارتبطت تاريخيًا بالمذنّبات بسبب ذيولها اللامعة التي تشبه المكنسة.

اللافت في تلك السجلات ليس مجرد رصد جرم سماوي، بل الإشارة إلى أنّ هذا الجرم ظلّ في نفس الكوكبة السماوية لمدة تقارب 70 يومًا، وهي مدة غير معتادة بالنسبة للمذنّبات المعروفة حاليًا، إذ تتحرك عادةً عبر السماء بوتيرة ملحوظة مع تغيّر زاوية رؤيتها بالنسبة للأرض والشمس، هذا الثبات الظاهري دفع بعض الباحثين قديمًا إلى اعتبار أن الجرم ربما كان انفجارًا نجميًا (سوبر نوفا) استقر في مكان واحد لفترة طويلة، لكن مارك ماتني قدّم تفسيرًا آخر، إذ أظهرت المحاكاة الفلكية  أنّ مذنّبًا يمرّ بالقرب من الأرض في مسار خاص قد يبدو ثابتًا تقريبًا في السماء من زاوية رؤية المراقب، وهو ما ينسجم جزئيًا مع العبارة الإنجيليّة التي ورد فيها أن "النجم وقف".

تعيد هذه النتائج إحياء فرضية المذنّب لتصبح من جديد ضمن أبرز الفرضيات المرشحة لتفسير نجم الميلاد، خصوصًا مع غياب دليل رصدي متين على انفجار نجمي في تلك الفترة، وعدم كفاية لمعان الاقترانات الكوكبية التي اقترحها عدد من العلماء بدءًا من يوهانس كبلر قبل أربعة قرون، كما أنّ وجود سجلّ مرصود بوضوح يعزّز هذه الفرضية من الناحية التاريخية، ويتيح للعلماء فرصة مقارنة البيانات القديمة مع النماذج الفلكية الحديثة التي يمكنها محاكاة المسارات المحتملة للجرم.

ورغم الحماسة التي أثارها هذا التفسير، يؤكد الباحثون أنّ الجدل لم يُحسم بعد، فكلّ تفسير من التفسيرات المطروحة يحمل نقاطًا قوية وأخرى قابلة للنقاش؛ المذنّب يملك سجلًا تاريخيًا واضحًا، لكن مساره المفترض لا يزال بحاجة إلى إعادة بناء دقيقة، أما انفجار نجمٍ أو نوفا، فيُفسّر السطوع والاستمرار، لكنه يفتقد إلى شهادة رصد عالمية متزامنة، وأمّا الاقترانات الكوكبية، فتبقى جذابة من حيث رمزيتها، لكنها لا تفسّر وصف النجم الذي وقف دون تأويل لغوي أو رمزي.

في نهاية المطاف، لا تدّعي الدراسة الأخيرة أنها الإجابة النهائية، لكنها تمثّل خطوة مهمة في إعادة قراءة قصة قديمة بعين علمية حديثة، وتفتح الباب أمام المزيد من الأبحاث التي تجمع علم الفلك وتاريخ الرصد وتراث النصوص الدينية، سيظل نجم بيت لحم علامةً بين السماء والكتاب، بين العلم والرواية، بين ما نرصده اليوم وما حاول أسلافنا فهمه قبل قرون طويلة، وربما تكمن جاذبيته الكبرى في أنّه لم يعد مجرد جرم سماوي مرّ في سماء الماضي، بل رمزٌ حيّ لأسئلة لا تزال معلقة بين العقل والفكر ، وبين ما نعرفه وما نبحث عنه في ظلمة الفضاءات الفلكية .

https://britastro.org/journal_contents_ite/the-star-that-stopped-the-star-of-bethlehem-the-comet-of-5-bce


Comments

Popular posts from this blog

LunisticeDec2025

هلال شوال 2025

سهيل 2025